رحلة استكشافية وسط ثلوج القطب
في مملكة أعماق المحيطات تسود ظروف لا تسمح بتواجد بشري فيها، إذ يزداد الضغط ليصل إلى 500 بار زئبقي، وتنخفض درجة الحرارة لتصل إلى بضع درجات مئوية، كما يخيم ظلام دامس. وبالرغم من ذلك تتفتح الحياة في هذه الظروف، فلقد أثبتت أبحاث سابقة وجود حيوانات بحرية دقيقة وسرطانات صغيرة معظمها غير معروفة على سطح الأرض.
ولهذا السبب قرر معهد ومتحف كونيج للأبحاث الحيوانية في مدينة بون الألمانية مؤخراً إرسال رحلتين استكشافيتين ليقوما بإلقاء الضوء حول الحياة على عمق 5000 متر. الرحلة الأولى انطلقت على متن سفينة تدعى "النجمة القطبية Polarstern" في شهر يناير / كانون ثاني الماضي وغايتها القطب الجنوبي، والثانية أبحرت على متن سفينة تدعى "ميتيور Meteor" قبل أيام وهدفها جزر الرأس الأخضر "كاب فير" في المحيط الأطلنطي قبالة الساحل الأفريقي. وقد عبر فولفغانغ فيجله رئيس معهد كونيج عن قلة أبحاث الأعماق قائلاً: "إن الإنسان يعرف عن سطح القمر أضعاف ما يعرفه عن أعماق المحيطات". وأضاف أن العلماء ينتظرون بتشوق نتائج الرحلتين التي ستثري معرفتنا بالحياة الأرضية، فالأبحاث السابقة بينت أن 90 بالمائة من الحيوانات الدقيقة التي عُثر عليها جديدة وليس لها مثيل على سطح الأرض. كما تطمح الرحلتان إلى رسم صورة واضحة لطبيعة سطح الأرض في هذه الأعماق.
الوصول إلى القاع
استغرق الإعداد لهاتين الرحلتين وقتاً طويلاً نظراً لصعوبة الاعتماد على الغوص لاستكشاف قاع المحيطات. كما يصعب الوصول لمثل هذه الأعماق باستخدام غواصات صغيرة، وإن حدث ذلك فستهرب من أمامها الحيوانات المراد استكشافها سريعاً. وعوضاً عن ذلك استخدم العلماء طريقة أخرى تقضي بالحصول على عينات من القاع ومن ثم فحصها ودراستها. وقد طوروا لذلك كابلاً طوله 10 كيلومترات يتم إنزاله تدريجياً إلى الأعماق بواسطة محرك موجود على السفينة، وينتهي الكابل بزلاجة محكمة تقوم بتجريف السطح وجمع عينات من الطمي والرواسب والكائنات الدقيقة التي تعيش فيها. تستمر عملية الجرف لمدة 20 دقيقة بعدها يتم إغلاق الزلاجة وسحبها، ثم يسحب الكابل إلى الأعلى مرة أخرى، وتستغرق عملية الإنزال والسحب مدة أربع ساعات كل على حدة.
مملكة الأعماق
تمتد أعماق المحيطات على مساحة مئات الكيلومترات المربعة من الطمي الرخو. وفي هذا الطمي تغوص جثث الحيوانات البحرية الميتة أو الأعشاب المائية والمرجانية وكل ما يُلقى على سطح البحر. وهناك تتحلل الجثث بواسطة كائنات دقيقة لا يزيد طولها عن ميليمترات ومعظمها أعمى وبدون ألوان. وبعض هذه الكائنات الدقيقة يشبه العناكب أو البراغيث، وبعضها الآخر له ما يشبه الزعنفة التي تساعده على إزاحة الطمي. كذلك توجد أنواع منها مجهزة بأذناب مدببة وأنواع أخرى تشبه نجم البحر.
وبرغم الجو الذي يسود في الأعماق فإن لها أهمية كبرى في استمرار الحياة على كوكبنا. فعن طريق تحليلها لما تلقيه الأنهار في البحار والمحيطات تحرر مواد عضوية نافعة وتطلقها لتحملها تيارات الماء إلى السطح فتتغذي عليها الأسماك والأعشاب البحرية. وهكذا فهي تساهم في استمرار الدورة الغذائية على كوكبنا. وقد لاحظ العلماء غزارة الحياة السمكية والبحرية في المناطق التي تتواجد فيها هذه الكائنات الدقيقة، كما هو الحال أمام سواحل أسبانيا الشمالية وناميبيا وبيرو. ويحذر العلماء من تأثير إلقاء المخلفات الكيميائية في البحر على وجود مثل هذه الكائنات الدقيقة.
متعة العلماء
الرحلة على سطح السفينتين ليست نزهة بحرية بل هي رحلة شاقة في أحيان كثيرة كما يقول البروفيسور فولفغانغ فيجله. فدرجة الحرارة تصل في القطب الجنوبي إلى 20 درجة تحت الصفر، إضافةً إلى الرياح والأعاصير الباردة. حتى يصبح من الصعب أحياناً المحافظة على العينات التي وصلت من الأعماق وتنقيتها وإعدادها، فيقول البروفيسور الذي خرج بنفسه في رحلات استكشافية عديدة: "يتعين عليك أحياناً عند هبوب عاصفة أن تحافظ على توازنك بذراع وتمسك العينة بالذراع الأخرى حتى لا تسقط". وفي الغالب يشعر طاقم الرحلة بالتعب بعد أيام قليلة من الرحلة من شدة المجهود المبذول، غير أن وصول عينة جديدة سرعان ما تعيد إليهم نشاطهم، فمتعة اكتشاف شيء جديد لدي العلماء لا تعادلها أي متعة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق